كان يا ما كان 💔

على مرمى عصاً من الماضي القريب ، كان نسوةُ الحارة يَخضن ، قبل عيد الفطر بأيامٍ ، معركة الكعك المقدسْ ، بكلِ حبٍ وتكافل ونقاء فطريّ ، حيث كُن يجتمعنَ كل يومٍ ، بعد الإفطار مباشرة ، وفقاً لجدولٍ عفوي في بيت إحدى السيدات . تَحمل كل سيدة ما توفرَ من أدوات وموادٍ على رأسها المُتوج بـ ( حواه ) ، سِراعاً سراعاً ، وتتجه ، بخطىً مباركةٍ ، شَطر بيت السيدة التي وَقع عليها الإختيار .
في حوش البيت ، تحت عَريشة اللهجة البدوية المؤصلة ، وعلى بعد ميلين من نصائح العجائز المتقاعدات من خدمة العجن والطهي ، يُعجن الكعك ويولد ضاحكاً ومباركاً في قِماط الحب . تَحمل الطاهية أول صحن منهُ ، وتزفهُ ، كوليدٍ جديد ، إلى العجائز اللاتي إستغللن إنهماك الجميع بمهامه ، وأخذن يسترسلن بحكايا البلاد القديمة .
بعدَ أخذ المصادقة من العجائز الذواقات ، يُخبز الكعك ، دفعة واحدة ، في أجواء إحتفالية ، ويوضع في " لقّان " كبير من حديد ، ثم يُطاف به كعبةً مقدسةً على رأس إحدى السيدات إلى الأيادي الطاهرة والأفواه المليئة بالدعاء وعبارات البركة . يُهرّب بعض منه ، كما تُهرّب الأحجار الثمينة ، إلى الحارة ، ويتداولهُ الأطفال ، من فمٍ إلى فم ، حتى يُشاع مذاقه في كل مكانٍ .
تأخذ كل واحدةٍ نصيبها من الكعك ، وتعود أدراجها إلى بيتها :
" غداً الدور لأم أحمد ، وبعده لأم خالد ، وبعدها للحجة فاطمة وبعد ذلك كل عام وأنتم بخير " .
كل ذلك كان ضرباً من الماضي القريب ، ذكرى تُمزق نياط القلب ولا أعلم ، حقاً ، كيفَ طُويت تلك الأيام ، وكيف فقد كعك العيد قداسته . فكرتُ طويلاً في كل ذلك وأنا مَاشيا اليوم على حطام ما تَبقى من ذكرياتنا الجميلة ، جاراً ورائي أذيالَ خيبتي وحزني ، عابراً الحارة بيتاً بيتاً ، إلى أن وصلت للمتجر الكبير . ما أن دلفته حتى تسرب مني الصوت من خلف أسوار الخيبة :
" بخمس دنانير معمول ، وبخمسة كعك ، لو سمحت "

حواه : قطعة من القماش توضع بشكل دائري على الرأس .
لقّان : إناء كبير .